http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2011/05/30/229143.html
ان طرح إشكالية التربية ، في سياق ما نعيشه اليوم من ثورات شعبية جماهيرية
، وحراك اجتماعي وسياسي هم جميع البلدان العربية ، بنسب متفاوتة في الحدة
، وسقف المطالب ، وطريقة التعاطي التي سلكتها الأنظمة في الرد على الحركات
الاحتجاجية ، أصبح أكثر من أي وقت مضى ضرورة قصوى وملحة ، بحكم أن
المنظومة التربوية المهترئة التي راهنت عليها الأنظمة العربية ، من أجل
تأبيد تمسكها بالسلطة ، قد أظهرت بالملموس مدى ضعفها الوظيفي ، ونتائجها
الكارثية على المجتمعات العربية ، لخطورة الظواهر اللاأخلاقية و اللا
تربوية التي أنتجتها منذ عقود ، وتجذرت في سلوكيات المواطن العربي ، لتصبح
واقعا لا مناص من التعامل معه اليوم بكثير من الصرامة ، خاصة ونحن نرفع
شعارات التغيير و الإصلاح و إسقاط الاستبداد و الفساد بجميع مظاهره .
وهذا الأمر لا يخص بلداً بعينه ، إلا أن ما يميز كل بلد عربي عن غيره في
التعامل مع الظاهرة التربوية ، هي قدرة النخبة المثقفة على طرح الأسئلة و
اتخاذ المواقف ، وتحمل المسؤولية التاريخية أمام الشعوب ، لتنبيهها إلى
ضرورة إعادة النظر في منظومة القيم ، وبناءها على أسس أخلاقية أصيلة ،
مادام الخلل واضح و جلي و بشهادة الجميع ، حتى الآباء و الأمهات و
التربويين بعد عقود من الاستلاب الممنهج الذي فرضته المؤسسات الرسمية ،
تحت تأثير الايديولوجيا و حكم الحزب الواحد و الرأي الواحد و الزعيم
الخالد ، التي شوهت المفاهيم و خلطت المضامين ، و ولدت الخراب المخطط في
الاقتصاد و السياسة و الأخلاق .
ومدى قدرة هذه النخب على إيجاد إجابات واضحة عن الإشكالات التربوية
العويصة، التي فتكت بالسلم و الأمن، وبالحياة الأسرية و الاجتماعية، بحكم
اشتغالها المعرفي و الثقافي و مسؤوليتها المبدئية في توجيه الرأي العام و
الوقوف بجانب الشعب ، بل و من منطلق مسؤوليتها الموضوعية باعتبارها طرفا
في الأزمة و مشاركا في إنتاجها ، كنتيجة حتمية للمواقف السلبية لبعض النخب
، و صمتهم اللامبرر إزاء ما تعانيه الجماهير الشعبية من عسف و شقاء
ولن نعدم النماذج إذا أردنا أن نضرب الأمثلة ، إلا أن أخطر ظاهرة تعرفها
مجتمعاتنا العربية هي ظاهرة العنف و التعنيف ، وشقائقها من إرهاب و قمع
وتعذيب ، وجريمة ، والتي هي وبدون شك منتوجات محلية الصنع ، و التركيب و
التسويق ، والماركة مسجلة باسم الديكتاتورية العربية الأسطورية ، التي
بدأت قلاعها تتهاوى ولكن لقاء أثمنة مرتفعة تدفعها الشعوب اليوم من دمائها
و حياة فلذات أكبادها
فالعنف اليوم أصبح هو اللغة السائدة، سواء كان رمزيا أو لفظيا أو فعليا، و
أصبح يمس شرائح كبيرة من المجتمع بما فيها الأطفال، مما ينذر بكارثة وشيكة
يمكن أن نسقط على إثرها في الهاوية
فما شاهدناه خلال الثورتين التونسية و المصرية من عنف موجه ، مارسه
النظامان السابقان من خلال بلطجيتهم المسلحة ، والتي تألفت من السوقة و
المجرمين و رجال الأمن المستخفين ، أظهر الوجه البشع للأنظمة التي ادعت
لعقود أنها حامية الأخلاق و الفضيلة ، وأظهر بالمقابل فئة عريضة من أشباه
المثقفين الذين تصوروا بمواقفهم الانبطاحية مع الأنظمة ، أنهم كانوا
يدافعون عن الشرعية ، وما شاهدناه بعد ذلك من نهب واعتداء وانفلات أمني ،
كان أمراً فائق الغرابة ، بعد ظهور مجموعات مذهبية وايديولوجية ، تريد
الانحراف بالثورة خاصة في مصر، نحو مسارات العنف و الفتنة الطائفية .
بل إن موضة إحراق الذات ، لم تبقى محصورة في بني البشر ، بل انتقلت لتجرب
على أجساد الحيوانات المسالمة كتأثير سلبي رهيب للظاهرة على سلوكات
الأطفال ، خاصة إذا علمنا أن عدد الذين أقدموا على حرق ذواتهم من أجل
أهداف سياسية أو اجتماعية ، قد فاق العشرات منذ أن أطلق شرارتها محمد
البوعزيزي رحمه الله بتونس .
لذلك فالإشكال التربوي حاضر بثقل كبير ، في معادلة الصراع الذي تخوضه
الشعوب اليوم ضد الديكتاتورية ، من جهة لأن الأنظمة و الحكام في النماذج
الماثلة أمامنا ، أبانوا عن انحطاط أخلاقي رهيب ، وعن سقوط مدوي على مستوى
الخطاب و الممارسة ، وعن لجوء هم المباشر إلى استخدام العنف كإجابة وحيدة
اتجاه المطالب الشعبية بالإصلاح .
ومن جهة أخرى لأن الشعوب ، وبقدرة خلاقة على إخراج الجميل و الطاهر فيها و
في قلوب أبناءها الشرفاء ، لم تعد تقبل بالانحراف السلوكي و الأخلاقي
والمذهبي ، الذي لا زالت بعض مظاهره تطفو ، لتعكر صفو الثورات ونقاءها ،
بل إن بعض تلك الانحرافات هددت بالقضاء على مكاسب الثورة ، خاصة في مصر ،
حيث تحاول فلول النظام السابق اللعب ، على التناقضات المذهبية و الدينية ،
لدفع المجتمع للاقتتال الطائفي و إشعال حرب أهلية بين أبناء الوطن الواحد.
لذلك فالثورة لن تكتمل ، إلا إذا حملت إجابات حقيقية على الإشكالات و
الظواهر الأخلاقية المزمنة ، لأن التأطير الشعبي على ثقافة السلم لا العنف
و التربية على المفاهيم الوطنية ، التي ترتفع بالوطن عن المزايدات
السياسية المرحلية ، ليس فقط رهينة بزوال الأسباب المتمثلة في النظام و
الحاكم ، بل بزوال الآثار و الرواسب التي تراكمت منذ عقود في سلوك الأفراد
و المواطنين ، وفي صلب المؤسسات التربوية ، كالأسرة و المدرسة و الجامعة
والطائفة الدينية و القبيلة التي تحتاج إلى التغيير و إسقاط أنظمتها ،
التي أنتجت بالتوازي مع الأنظمة ، جملة من الظواهر التي كانت إلى أمد بعيد
، غريبة عن مجتمعاتنا ، التي نفتخر بكونها مسلمة .
كما أنه بالنسبة لبعض الشعوب العربية التي مرت بتجربة مريرة من الصراع ،
مع ظاهرة الإرهاب كالصومال و اليمن و الجزائر ، أصبح الرهان على التغيير
السلمي خيارا استراتيجيا وتربية المواطنين على نبذ العنف بشتى أنواعه ، و
مواجهة مظاهره مسؤولية تاريخية تحملها النخبة على عاتقها من أجل التغيير
الايجابي ، وعدم السقوط في فخ السلطة التي جعلت من ممارسة العنف وسيلتها
المفضلة لقيادة الشعوب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق